الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذا ليس مذهب سبيويه، إنما مذهبه ما تقدَّم تحقيقه في سورة النساء.قوله: {وأنْ أقِيمُوا} فيه أقوال:أحدها: أنها في مَحَلِّ نصب بالقول نَسَقًا على قوله: {إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى} أي: قل هذين الشيئين.والثاني: أنه نَسَقٌ على {لنسلم} أي: وأمرنا بكذا للإسلام، ولنقيم الصلاة، وأن تُوصل بالأمر كقولهم: كتب إليه بأن قم، حكاه سبيويه وهذا رَأيُ الزَّجَّاج.والثالث: أنه نَسَقٌ على {ائْتِنَا} قال مكي: لأن معناه: أن ائتنا، وهو غير ظاهر.والرابع: أنه مَعْطُوفٌ على مفعول الأمر المقدر، والتقدير: وأمرنا بالإيمان، وبإقامة الصلاة قاله ابن عطية.قال أبو حيَّان: وهذا لا بأس به، إذ لابد من تقدير المفعول الثاني لـ {أمرنا} ويجوز حذف المعطوف عليه لِفَهْمِ المعنى؛ تقول: أضَرَبْتَ زيدًا؟ فيجب نعم وعمرًا؛ والتقدير: ضربته وعمرًا.وقد أجاز الفراء: جاءني الذي وزيد قائمان، التقدير: الذي هو وزيد قائمان، فحذف هو لدلالة المعنى عليه، وهذا الذي قاله أنه لا بأس به ليس من أصول البصريين.وأما نعم وعمرًا فلا دلالة فيه؛ لأن نعم قامت مقام الجملة المحذوفة.وقال مكي قريبًا من هذا القول، إلاَّ أنه لم يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه، فإنه قال: وأن في موضع نَصْب بحذف الجارِّ، تقديره: وبأنْ أقيموا، فقوله: وبأن أقيموا هو معنى قول ابن عطية، إلاَّ أن ذلك أوضحه بحذف المعطوف عليه.وقال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: {وأن أقيموا}؟ قلت: على موضع {لنسلم} كأنه قيل: وأمرنا أن نسملم، وأن أقيموا.قال أبو حيَّان: وظاهر هذا التقدير أن {لنسلم} في موضع المفعُولِ الثاني لـ {أمرنا} وعطف عليه: {وأن أقيموا} فكتون اللام على هذا زَائِدَةً، وكان قد تقدَّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر، فتناقض كلامه؛ لأن ما يكون عِلَّةً يستحيل أن يكون مفعولًا، ويدلُّ على أنه أراد بقوله: أن نسلم في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك: ويجوز أن يكون التقدير: وأمرنا لأن نسلم، ولأن أقيموا، أي للإسلام ولإقامة الصلاة، وهذا قول الزَّجَّاجِ، فلو لم يكن هذا القول مغايرًا لقوله الأوَّل لاتَّحَدَ قَوْلاَهُ، وذلك خُلْفٌ.قال الزَّجَّاج: {أن أقيموا} عطف على قوله: {لنسلم}، تقديره: وأمرنا لأن نسلم، وأن أقيموا.قال ابن عطية: واللَّفْظُ يُمانِعُهُ، لأن نسلم معرب، و{أقيموا} مبني، وعطف المبني على المعرب لا يجوز، لأن العطف يقتضي التَّشْرِيكَ في العامل.قال أبو حيان: وما ذكر من أنه لا يعطف المبني على المعرب ليس كما ذكر، بل يجوز ذلك نحو: قام زيد وهذا، وقال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98] غَايَةُ ما في الباب أن العامل يُؤثِّرُ في المعرب، ولا يُؤثِّرُ في المبني، وتقول: إن قام زيد ويقصدني أكرمه، ف إن لم تُؤثِّرْ في قام؛ لأنه مبني، وأثرت في يقصدني؛ لأنه معرب ثم قال ابن عطية: اللهم إلا أن تجعل العطف في إن وحدها، وذلك قلق، وإنما يَتَخَرَّجُ على أن يقدر قوله: {وأن أقيموا} بمعنى ولنقم، ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالةِ اللفظ، فجاز العطفُ على أن يلغي حكم اللفظ، ويعول على المعنى، ويشبه هذا من وجهة ما حكاهُ يونس عن العرب: ادخلوا الأوَّل فالأوَّل، وإلا فلا يجوز إلاَّ الأول فالأوَّل بالنصب.قال أبو حيَّان: وهذا الذي استدركه بقوله: اللهم إلا إلى آخره هو الذي أراده الزَّجَّاج بعينه، وهو {أن أقيموا} معطوف على أن نسلم، وأن كليهما عِلَّةٌ للمأمور به المحذوف، وإنما قلق عند ابن عطية؛ لأنه أراد بقاء {أن أقيموا} على معناها من موضوع الأمر، وليس كذلك؛ لأن أنْ إذا دخلت على فعل الأمر، وكانت المصْدَرِيَّةَ انْسَبَكَ منها ومن الأمر مصدر، وإذا انْسَبَكَ منهما مصدر زال معنى الأمر، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن تُوصَلَ أن المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي والأمر.قال سيبويه: وتقول: كتبت إليه بأن قم، أي بالقيام، فإذا كان الحكم كذا كان قوله: {لنسلم} و{أن أقيموا} في تقدير الإسلام ولإقامة الصلاة، وأما تشبيه ابن عطيَّة له بقوله: ادخلوا الأوَّل فالأول: بالرفع، فليس بتشبيهح لأن ادخلوا لايمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلَّطَ على ما بعده، بخلاف أنْ فإنها تُوصَلُ بالأمرِ، فإذن لا شبه بينهما انتهى.أما قول أبي حيَّان: وإنما قلق عند ابن عطية؛ لأنه أراد بقاء {أنْ أقيموا} على معناها من موضوع الأمر، فليس القلقُ عنده لذلك ققط كما حصره الشيخ، بل لأمر آخر من جهة اللفظ، وهو أن السِّيَاقَ التَّرْكِيبِيَّ يقتضي لعى ما قاله الزجاج أن يكون لنسلم وأن نقيم، فتأتي في الفعل الثاني بضمير المتكلم، فلما لم يقل ذلك قلق عنده، ويدلُّ على ما ذكرته قول ابن عطية: بمعنى: ولنقم ثم خرجت بلفظ الأمر إلى آخره.والخامس: أنه مَحْمُولٌ على المعنى؛ إذا المعنى قيل لنا: أسْلِمُوا وأن أقيموا.وقال الزجاج: فإن قيل: كيف حَسُنَ عطف قوله: {وأن أقيموا الصلاة واتقوه} على قوله: {وأمِرْنَا لِنُسلمَ لِرَبِّ العالمينَ}؟فالجواب من وجهين:الأول: أن يكون التقدير: وأمرنا لنسلم لرب العالمين، ولأن نقيم الصلاة.الثاني: أن يكون التقدير: وأمرنا فقيل لنا أسلموا لربِّ العالمين، وأقيموا الصَّلاة.فإن قيل: هَبْ أن المُرَادَ ما ذكرتم، لكن ما الحِكْمَةُ في العُدُولِ عن هذا اللَّفْظِ الظَّاهِرِ، والتركيب الموافق للعقل إلى ذلك اللفظ الذي لا يهتدي العقل إلى معناه، إلاَّ بالتأويل؟!.فالجواب: لأن الكافر ما دام يبقى على كُفْرِهِ كان كالغَائبِ الأجنبي، فلا جرم خُوطِبَ بخطاب الغائبين، فيقال له: {وأمِرْنَا لِنُسلِمَ لِرَبِّ العَالمينَ} فإذا أسلم وآمن ودخل في الإيمان صار كالقريب الحاضر، فلا جرمَ خُوطِبَ بخطاب الحاضرين، ويقال له {وأنْ أقيمُوا الصَّلاة وأتَّقُوُه} فالمقصود من ذِكْرِ هذهين النوعين من الخطاب للتنبيه على الفَرْقِ بين حالتي الكُفْرِ والإيمان، وتقريره أن الكافر بعيد غائب، والمؤمن قريب حاضر. اهـ. باختصار.
|